أحب أحاديث جدتي , أحب غموضها وأني لا أعرف عنها أي شيء كطلسمٍ مقدس في كتابٍ إلهي لا يفك رموزه إلا الراسخون بالعلم , العلم بها بطبيعة الحال , حتى اسمها الحقيقي لا أعرفه سوى أنها فاطمة وأنها من أصل تركي وأن جدي رآها في أطراف الحجاز وأحبها وتزوجا , هذه رواية عشق ؟ لا أجزم , لكن هو كل ما أعرف عن جدتي فاطمة وأخبروني به . أذكرها بطفولتي أنّا كنا نزورها في بيتها على تخوم البحر فتقربنا بحضنها وننام أنا وأختي على أرجلها وتحكي لنا من قصصها الجميلة والمضحكة ثم تدغدغنا بعدها وتعضّنا . لقبها المتعارف عليه بيننا ( أمي جدّة ! ) وكنا نقوله ونضحك وهي تطاردنا وتعضنا وتنفي كونها أمنا الجدة . تغير هذا كله بالتأكيد وأصبحت أناديها "يمه" مجردة مع حنيني إلى مناداتها ما كنت أناديها به , وإن كان أخوتي الصغار لا يزالون ينادونها بهذا الاسم وهي لا تزال تعضّهم إذا قالوها . رأتْ كثيراً وسافرتْ كثيراً , اسألها عن أحلى مدينة زارتها بالعاااااالم ؟ فتردّ بأدب من يُقدّر النِعم ( كل بلاد الله جميلة ) فاسألها بس أكيد في بلد حبتيه أكثر شيء صح ؟ فتطأطئ رأسها بتواضع وتقول بلد الرسول عليه الصلاة والسلام , ومكة المكرمة . لا تزال تعظيمات بني عثمان بدمها لكل ما هو مقدس . وعن القدس اسألها , فتقول زرت فلسطين كلها , القدس ويافا وحيفا والجليل وأريحا , الضفة الغربية كلها . فأرجع وأقول والقدس ؟ وأشعر أن هناك حرقة في صدرها لا تود لها أن تخرج فتقول كنا أنا وجدك لا نقضي الصيف إلا فيها . أعرف هذا , عرفته مصادفة قبل زمن حين كنا في الأردن ومررنا على الأغوار وهناك تذكر خالي الكبير هذه المناطق التي زارها وهو صغير مع أبيه وأمه حجاً لفلسطين والقدس , كنتُ نائماً في المقعد الخلفي عند أمي ولما سمعت القدس قفزت وقلت : زرتم القدس ؟ وأخذ يسهب بذكرى الأمكنة والحنين . من حينها وأنا أقول إن رأيت جدتي لابد أن اسألها عن القدس . سألتها ألف مرة ونسيت كل حديثها .. كلنا ننسى هي وأنا , ولم أكن اعتدت الكتابة بعد . تقول أنه قبل الحرب لم تكن هي وجدّي يقضيان الصيف إلا في القدس , فأسالها أي حرب , 48 ؟ فتهز رأسها بالإيجاب . ربما هي حرب 67 فهناك أُسرت القدس , لكن الحرب هي الحرب والمعنى واحد مهما اختلف الموعد والسقوط . المعنى أنها لم تذهب إلى القدس بعد ذلك إلا لِماماً , ويحترق في صدرها شيء وهي تقول بلغة السماء ( أعادها الله إلى المسلمين ) . اسألها عن المسجد الأقصى والصخرة , فتقول أنها صلّت بكِلاهما , تقول لي بسردٍ تاريخي عن الصخرة أنها المكان الذي وضع الرسول عليه الصلاة والسلام رجله الشريفة حال معراجه إلى السماء وهذه الصخرة أرادت الصعود من مكانها تتبعه فقال لها قفي يا مباركة وبقيت على ارتفاعها , هذه الصخرة كما تصفها مرتفعة أربعة درجات عن الأرض , هناك صلّت , وعلى هذه الصخرة بنى بني أمية قبة الصخرة ومسجدها . تحت هذه القبة مباشرةً صلّت جدتي أكثر صلواتها خوفاً ؛ اسألها باستغراب لما ؟ فتقول لأني صليت فوق بئر الأرواح . هذه المعلومات كلها أسمعها للمرة الأولى , لا أدري شيئاً عن بئر الأرواح هذا على كثرة ما أحببت القدس وقرأتها , لكن على أية حال هي من صلّت هناك لست أنا , وهي من رأتها عياناً ورأيتها تصوراً , هي من لمست الصخرة بيداها وأنا اكتفيت باستشعارها في قلبي . تقول أنها وهي تصلي كانت تسمع أصوات الأرواح تسري تحتها , وتقلّد أصواتهم جججج . أعدت القراءة من جديد عن القبة ووجدت أنه " يوجد أسفل الصخرة كهف به محراب قديم يطلق عليه مصلى الأنبياء " لعل هذا الذي تعنيه . أصابتها الرعدة هناك حتى بالكاد أتمتّ صلاتها , تقول ذلك , وأنا أشعر أن بعدها ذهبت تركض إلى جدي ليقيها من برد ما أصابها . في ذاك الوقت حملتْ أعز ذكرياتها عن القدس , فهي عاشت شهراً بأكمله هناك , شهر الفراق بَعدهُ عنها , وإن كان فراقاً غير كامل , فهي تخبرني أنها كانت تزور عمّان ما تسنى لها ذلك مع جدي ويذهبون سوية إلى القدس كل جمعة يصلون في المسجد الأقصى , حديثنا هي وأنا كان في صباح الأحد وتشير من دون النظر إلى الساعة أنها كانت تذهب معه رحمه الله في مثل هذا الوقت , كأنها ذهبت معه قبل الأمس بالتحديد . كانوا يأخذون معهم غداءهم ويصلون في باحات الحرم حيث المسجد بالداخل ممتلئ عن آخره , وبعد الصلاة يفرشون طعامهم ويأكلون تحت ظلال الأشجار , وتبتسم هنا جدتي ابتسامة لم أرى يوماً أجمل منها بعينان رماديتان لم تأخذ هموم سبعين عاماً منها جمالهما . أنها كانت تأكل الطعام مع جدي تحت ظلال الزيتون في باحة المسجد الأقصى هذا هو أعظم ذكرياتها وذكرياتنا من بعدها . وتلعن اليهود , هي لا تدري معنى معاداة السامية التي أزعجوا رؤوسنا بها , لكنها تلعن اليهود الذين سلبوا منها القدس والذكرى .
ياالله ،
أول مره أعجز عن أي تعليق يامنصور ربما لأن حديثك اليوم عن القدس .
نتصبر بهكذا احاديث، وننتظر دورنا!
الله يخليها لكم ويحفظها..
تدوينة منعشة بشكل لا استطيع وصفه يا منصور (F)
وقلت للذكرى: سلاماً ياكلام الجدة العفوي.. يأخذنا إلى ايامنا البيضاء تحت نعاسها ..! *
ياااه يامنصور ..! شكثر استحيت اقرأ
تدوينتك وانت تطالعني !
معقوله تذكر : امي جده ، والعض اللي كنّا نأكله ، والحكايا ونغمة الصوت اللي تحس منها
اذا الشخصيه شريره او طيبه ! وَ وَ وش كثر كنت احب العالم اللي تأخذنا له ( يمّه ) ..
حسدتك شوي على لحظات الصباح اللي تقضيها معها وتستأثرك بهالاحاديث ..
قلوب من هنا لين بعيد حدّ الخيال يا منصور..!
هل شعرت بقوة حديثك حين قصصت لنا عن كل هذا؟ .. اختلاط الأصوات .. الضحكات الخافتة والعالية .. خوف وأمان الطفولة .. مرور العمر في لمحة بصر .. الشجر المهتز بالنسائم الجميلة .. المواقف الدافئة .. الأرواح الحيّة .. و المشاعر المتشابكة بدموع السماء وخيوط الأدعية المنشقة من قلوبنا للسماء ؟؟
ابتسمت وكلي دموعي .. نادراً ما نجد ما يطبب على أفئدتنا في معمعة الكون .. وفي حكيك هنا أحسست بأن العالم به الكثير لنحكي عنه مازال !.. وأن به الكثير الذي يؤكد إنسانيتنا والرحمة والخير والأمور الجميلة .. محرابك وحكيك يروق لبشر أنت مُلهمهم .. وأنا منهم ..
Lègereté & Lament أغبطكم على جدتكم .. على تسرب الدم فيكم الذي عرف القدس وصلى بها .. (ربي يحفظها ويديمها لكم ذخر ويقرّ عيونها بكم)
سر: طبعت هذه الصفحة وإني أحتفظ بها في بطن محفظتي..
عهد علّي أن أصلي في القدس بإذن الله ..
اقرأها مرتين في اليوم كي يزيد إيماني بقرب الحلم أن يفتسر ..
يا الله.
لغة السرد، صنعت في داخلي شُعور حميم وسرّي.
يطول بعمر الغالية.
🙁
شكراً
آلاء , هيفاء , سارة , فاطمة , ساقية .
شكراً جزيلاً لكم , تعليقاتكم مبهجة إلى الحد الذي أخجل معه ولا أحمل فيه لكم سوا امتنان وشكر لا ينتقطع ..
(F)
ودي أتّـأملّها .. و أتألّم…
حديثك هنا مختلف جداً
أخذني من يدي لأشجار الكنار و التوت ..
للظهريّات الجميلة
للمصحف الكبير و صوتها الرخيم..
و صوتك الآن .. الأصدق على الإطلاق ..
راح نصلي بالقدس العتيقة يوماً ما بإذن الله ..
وراح نقيس بيدينا مسافة الاربع درجات .،
وراح نسمع دبيب الأرواح و ألوذ بك و أستعيذ مما لا أعلم …
الله يبقي هالجنّـة كلّ العمر .. ويرزقنا شوفتها