بالنسبة لي أحب المطاعم المنزوية, المجهولة, المختفية في داخل الأزقة, تلك المطاعم الغاية في البساطة لكنها تمثل لروادها نادياً خاصاً. هذا المطعم أحدها, لا أدري كيف قادتني الصدفة إليه, بعد أن ابتلعتني الحواري الضيقة. مررت من أمامه و وجدت صاحب المطعم يقف بجانب الباب. يشبه جورج مايكل لكن بملامح إيطالية. قلت له تشاو سنيور, رد تشاو. لم ألتفت إليه و وقفت أنظر إلى المينيو المعلّق على الجدار لكن لم يعجبني, كانت الأسعار مرتفعة قليلاً بالنسبة لمطعم رديء مثله, أكملت مسيري, لكن كان هناك شيئاً يقول لي أرجع أرجع! رجعت, كان السنيور لم يتحرك من مكانه, قلت له تشاو سنيور, قال تشاو, أدخل سيعجبك المكان. كان المطعم حقيقة يقبع في القبو, أن تنظر إلى الفتحات الصغيرة أعلى الجدار هو أن تنظر إلى أرجل الناس وهي تسير في الشارع. لكنه كان مذهلاً, قد تزور مطعماً و تشعر فيه بالحميمية كأنه بيتك الثاني, لكن في نهاية الأمر يبقى مطعماً, كان هذا بيتاً فعلاً, حتى رائحة المغسلة تذكرني ببيت روزأنجيلا الذي سكنته في ميلانو, الأشد إذهالاً في الأمر أن في كل زاوية في المطعم تجد قميصاً معلقاً لفريق ميلان, قمصان من السبعينات حتى التسعينات, مشاهدتها جعلت قلبي يرفرف. جاءتني ابنته تأخذ مني الطلبات, أذكر أني طلبت أشياءً كثيرة جعَلَتها تضحك. قلت لها أحب أن أجرب كل شيء هنا! لا أذكر ما الذي حدث بعد ذلك, أتذكر فقط شعور السعادة الذي بقي معي لليوم التالي, سعادة جعلتني لا أفكر بالرجوع إليهم حتى لا تنكسر تلك الصورة. كان هذا قبل شهر ونصف. اليوم لا أدري ما الذي جعلني أمر قريباً من المطعم, لم أكن جائعاً, لكن قلت سأذهب إليهم, وجدت السنيور يقف في نفس المكان, كأني تركته من ثانية ونصف فقط, قلت له تشاو سنيور, ردّ عليّ بإرتباك تشاو, جئتنا مرة واحدة ولم تعد أبداً, لم يعجبك المكان؟ قلت له "أعجبني كثيراً, لكن.." لم أكمل, شعرت أن لغتي خانتني, كان ينظر إليّ يريد معرفة السبب, ابتسمت في وجهه وقلت هل يمكن أن أدخل؟ سبقني إلى الأسفل و قال للعاملة (الجديدة) طاولة لشخص واحد, مثير للشفقة, دائماً لواحد. لو قال ذلك عني قبل شهر ونصف لكنت ضحكت كثيراً, لكن هذه المرة أردت أن أرد عليه رداً قاسياً, أن ألكمه على وجهه و أجلس في زاوية أبكي ويداي ترجفان من العصبية. على أية حال بلعت لساني و قلت أريد أن أجلس هناك في الركن البعيد. جلست, وضع يده على كتفي وسألني ماذا ترغب أن تأكل اليوم؟ كثيراً كالمرة الأخيرة؟ هل تعلم بأننا ضحكنا عليك طويلاً أنا والشيف؟ قال من هذا الذي سيأكل لوحده كل هذه الطلبات, أنت لا تعلم ولكن الشيف جاء من بعيد ونظر إليك يريد أن يرى الرجل الضخم الذي سيأكل كل هذا, وحينما رأك نحيلاً ضحك ربما ليومين متتالين. كان يقول هذا الكلام بإنجليزية لم أرى أكثر منها ركاكة في حياتي, كان يقول كلمتين أو ثلاث ويضحك, لكني لم أضحك. بعد أن أنتهى, قلت له بالإيطالية هل أنت دائماً فظ هكذا؟ وقع على ركبته من الضحك وقال لي يا صديقي أنا من سردينيا. لم أتمالك نفسي أنا أيضاً وضحكت, على الرغم من أني لا أعرف معنى كلامه أنه من سردينيا, لكني شعرت أنه يعرفني من ألف سنة. حتى غضبي عليه كان لأني شعرت كأني أعرفه من ألف سنة. كان ينظر إليّ و الدموع في عينه من فرط الضحك. قلت له أين ابنتك؟ قال لي ماي غيرل نوت كم. قلت له يا رجل لك مئة سنة في مانشستر ولا تزال تتحدث بهذه الركاكة؟ ضحك أطول من قبل وأخذ يقول بالإيطالية آه يا سيدتي العذراء, و يشتم ويقول اللعنة على الإنجليزية هذا لأني لا أطيقها. و أخذ يردد آه يا سيدتي العذراء ماذا دهاني اليوم؟ لم أضحك من ميلاد سيدتي العذراء, آه يا سيدتي العذراء. قلت له أفضل ما فيك أنك روسونيرو و تشبه جورج مايكل, قال لي وأنت تشبه بون جوفي. قام من عندي وهو يرددها و يضحك. أرسل لي النادلة وأخذت مني الطلبات وسألتني ماذا فعلت بالرجل؟ يبدو أنه في طريقه إلى الجنون, حمداً لله أن المطعم فارغ الآن لم يرى أحداً هذه الفضيحة. انتهيت من الأكل و أنا في طريقي للخروج سمعت رجلاً ينادي بون جوفي, هيه بون جوفي, السلام عليكم. كان هذا الشيف, قلت له السلام عليكم. أجابني بغضب قل وعليكم السلام, خطأ أن تجيب هكذا. ثم قال لا لا تشبه بون جوفي, أنا أشبهه أكثر منك وضحك. قلت له بحق الله ماهذا المطعم المجنون! قال: لا عليك لا عليك, ثم تحدث بوجه من قَدِم من الحرب لتوّه: هل أعجبتك البيتزا والباستا؟ لا تغب عنا كثيراً, اعتبر نفسك واحداً منا. أجبته سأفعل, أنت من سردينيا أيضاً؟ قال نعم وأنت؟ أجبته: من سردينيا مثلكم.
وأنا كذلك من سردينيا 🙂
كنت على وشك طباعة القصة ولفها في خبز! حتى تكون فطوري لهذا اليوم! أسعدت صباحاً، ألن تخبرنا عن اسم المطعم يا بون جوفي؟
أهلاً نور
بلد جميل و أناس طيبون.
شكراً.
–
ناصر
أهلاً فيك يا صديقي. شكراً على ذوقك والله.
طيب لا تغيب كثير و أكتب لك كل لستة المطاعم اللي زرتها ههه
–
* يبدو أن هناك مشكلة تخص التعليقات, بعضها لا يظهر, أو تكون بين السبام و أحذفها بلا قصد. أعتذر بشدة و أعتزّ بكل تعليق يأتيني منكم.
استمتعت بالقصة والسرد الجميل. و ضحكت أيضاً 🙂 تشبه قصة لي مع أحد المطاعم المنزوية في سالزبورج، النمسا، وتفاصيل المكان أيضاً.
أهلاً فراس، والله زمان 🙁
شكراً لك، ولازم نقرأ قصتك أيضاً.
سعيد جداً بتعليقك.