أجل، لقد كان الشهيد الملك فيصل، رحمه الله وجعل الجنّة مثواه، صاحب الصيحة المدوية: (نحن أصحاب تاريخ وتراث وأمجاد.. ديننا خالد، ومجدنا طريف وتالد، كان مكاننا في مقدمة الشعوب، فلن نرضى بأن نكون في مؤخرتها، وقدنا العالم بهدينا، فلن نقبل بالمبادئ المستوردة) كان الفيصل زعيمًا عبقريًا نابهًا، ودبلوماسيًا بارعًا، وسياسيًا حكيمًا، وقائدًا عظيمًا، داهية واسع الحيلة، قوي الأعصاب، شديد التمسك بقيمه ومثله العليا صاحب منهاج وفلسفة فريدة، عرف بالصبر والكتمان وعزّة النّفس، وعفّة اليد واللسان، يمقت العظمة والكبرياء، ويكره الذلّة والمسكنة، متواضعًا لدرجة أنه كان يتحرج في تواضعه مما يسمع من ثناء الناس عليه بالحق، مع أن غيره من الزعماء، يطلبون المبالغة في الثناء عليهم بما لا يستحقون، وأحيانا يعمدون لشرائها بقوت شعوبهم. بعيدًا عن الغلو، واسع الأفق، راجح الحلم، في صفاء نفس وأدب رفيع.
وبجانب هذا كله وغيره مما اتصف به الفيصل من المحامد والمكارم التي يستحيل حصرها، كان الرجل صادقًا، لا يكره شيئًا مثل كراهيته للكذب، وقد أكد هذا المبدأ منذ اللحظة الأولى لدخوله الحياة العامة، يوم شغل أول منصب له في الحجاز، نائبًا عن والده، وكان في أول شبابه، إذ أعلن للناس منهجه الذي جاء فيه: (إن أكثر ما أكرهه هو الكذب، الذي كرهه الله ورسوله، وإني لأكره أن أسمعه ولو من أحقر الناس، فحاشا لله أن أرضاه لنفسي).
ولهذا ليعلم كل من كان يظن أن السياسة لونًا من الكذب، أو الكذب لونًا من السياسة، على رأي ميكافيلي، يتيح الغدر والخيانة والجريمة في الحياة العامة، ليعلم أولئك أن سياسة الفيصل كانت أكثر صعوبة من سياسة القوم الذين يستبيحون الكذب والغدر والخيانة.
فلا غرو إذن أن اضطلع الفيصل بأعمال جليلة، تجل عن الوصف في خدمة بلاده والشعوب الإسلامية والعربية، والانتصار لقضاياها ومساعدة المؤسسات والأفراد وتعزيز السلم العالمي.
ولهذا اشتهر رجل سلام، وحاكمًا حريصًا على قيم العدالة والإنسانية، ورجل دولة من طراز فريد، جعل الوفاق رائده، والحلم رفيقه، والعقل دليله، فحظي بتقدير رفيع من العالم كله، واكتسب ثقة عالمية، وحاز شرفًا لم يسبقه إليه أحد، إذ كان أصغر شاب في العالم تولى مهمة سياسية، كما كان أصغر قائد لجيش، وأصغر رئيس حكومة، وأصغر وزير خارجية في العالم، وهو صاحب أول بيان سياسي صادر عن الرياض، وكانت سنّه يومئذٍ نحو الثامنة عشرة، وصفته جريدة المنار يومها بـ(أول بلاغ عام عن عاصمة نجد، بإمضاء نجل سلطانها، أرسل إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي) وتربع على عرش الحكومة وهو في التاسعة عشرة من عمره المبارك، وهو الذي وقّع ميثاق الأمم المتحدة ممثلاً لبلاده في سان فرانسيسكو في 26 / 6 / 1945م، وألقى كلمة بليغة جاء فيها: (إن هذا الميثاق لا يدل على الكمال، كما كانت تتوقع الأمم الصغيرة التي كانت تأمل أن يحقق المثل العليا، على أنه كان خطوة كبيرة إليها، وسنعمل كلنا للمحافظة عليه، وسيكون الأساس المتين الذي يبنى عليه صرح السلام العالمي). فأصبح عميد رجال الدولة والسياسة لقديم اشتغاله بالسياسة والحكم. فملك القلوب بأخلاقه وكرم نفسه، كما أرضى العقول بعبقريته وحكمته وسياسته، فطبع الله محبته في القلوب، لما في قلبه هو من محبة للناس. فلا أحد ينكر فضله اليوم على هذه الأمة.
الأمير بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
(من مقال عن الأمير سعود الفيصل، الرجل الذي سيخّلده الزمان كما خلّد أباه الفيصل)