14 يناير 2014
"كتب روبرت ليسي يقول إن كسينجر بدا منفعلاً عندما حوّمت طائرته فوق البادية قبل أن تحط في الرياض. حاول أن يطلق نكتة، فجاءت "بائخة": "لن يخرج من الطائرة إلا السكسونيون البيض. هل بينكم سكسونيون؟" سأل كسينجر الصحافيين فارتفعت الأيدي. فقال لهم: "طيب، انزلوا من الطائرة في البداية، أما أنتم الثلاثة فآخر من ينزل". وأشار بيده إلى ثلاثة من الصحافيين اليهود. كان كسينجر يمزح، أو حاول أن يمزح.
حصل ذلك في 8 نوفمبر 1973م، بعد حوالي أسبوعين ونصف الأسبوع من حظر البترول السعودي.
وقبل يوم واحد كان كسينجر قد تحدث إلى أنور السادات في القاهرة، وسأله ماذا نتوقع "من أقوى عربي خلال الألف عام الأخيرة"؟
فأجاب السادات: يا دكتور كسينجر، الأرجح أنه سيلقي عليك محاضرة عن الشيوعية واليهود.
ولذا بدأ وزير الخارجية الأميركي من مبلغ 2.2 مليار دولار الذي خصصه الأميركيون للمساعدات الحربية لإسرائيل كي يبرر فعلتهم وقال:
كان هدفنا خلال الحرب، يا صاحب الجلالة، هو منع انتشار النفوذ الشيوعي في المنظقة. وعندما أرسل الاتحاد السوفياتي كميات كبيرة من الأسلحة إلى المنطقة (يقصد مصر وسورية) قرّرنا أن نرد على ذلك.
استمع إليه فيصل بصمت. لم يبتسم، بل كانت أصابعه الطويلة تدعك العباءة، كعادته حينما ينفعل. لم تقنعه تبريرات هذا الأميركي، ثم قال بصوته الرفيع:
نحن نعرف أن الولايات المتحدة، خلال تاريخها، وقفت دائماً ضد المعتدي… وعندما طمعت ألمانيا النازية في أراضي دول مجاورة… اعترضت الولايات المتحددة من دون أي تردد. وفي سنة 1956م لم تتردد الولايات المتحدة في معارضة التحالف بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عندما اشتركوا في الاعتداء على مصر. لهذا في سنة 1967م، عندنا اعتدت إسرائيل على مصر وسورية والأدرن، كان يجب على الولايات المتحدة… أن تضغط، في الحال، على إسرائيل لتعود إلى حدود 4 يونيو. لو فعلت ذلك لما حدثت التطورات الأخيرة.
وواصل الملك:
قبل تأسيس إسرائيل لم يكن هناك ما يعرقل العلاقات بين العرب واليهود، ولم يكن هناك سبب يدعو العرب إلى مقاومة اليهود. وكان هناك يهود كثيرون يعيشون في دول عربية، وكنا نسميهم "اليهود العرب". وقبل مئات السنين، وعندما عُذّب اليهود في إسبانيا (على أيدي محاكم التفتيش الكاثوليكية) قام المسلمون بحمايتهم.
وأضاف: "ستالين هو الذي قال في يالطا بلزوم قيام الدولة العبرية".
وبعد ذلك عرض الملك فيصل آراءه في شأن الصهيونية والشيوعية:
لسوء الحظ تعمل إسرائيل لتحقيق الأهداف الشيوعية… ويوجد وسط الذين يعتنقون الدين اليهودي من يؤيد الصهيونية… والمشكلة أن حرب سنة 1967م أعطت الشيوعيين فرصة لزيادة نفوذهم في الشرق الأوسط. لا يتوقف الشيوعيون عن خلق مشاكل لنا لأنهم يعرفون أننا أكبر حاجز أمام نشر مخططاتهم في المنظقة.
فأجاب كسينجر من دون ارتباك:
يا صاحب الجلالة، تواجه الولايات المتحدة مشكلة الانتقال من الوضع الحاضر، وهو وضع لا يقدر العرب على تحمله، إلى وضع سلام حقيقي.
فرد فيصل بإيجاز: "لتبدأو بأن تضغطوا على إسرائيل لتنسحب…" (في مثل هذا الموقف اقترح والد الملك فيصل الملك عبدالعزيز على روزفلت أن يؤسس موطناً لليهود في ألمانيا).
وسأل كيسينجر:"هل تستطيعون يا صاحب الجلالة أن تتخذوا خطوات تقيّد استخدام حظر البترول؟".
فأجاب الملك: "على الولايات المتحدة أولاً أن تأمر إسرائيل بالإنسحاب".
"ألا يفكر صاحب الجلالة بالتأثير النفسي لحظر البترول على موقف الأمريكيين من المسألة العربية؟"
فأجاب الملك فيصل: "يجب أن تعاد للفلسطينيين حقوقهم المشروعة".
كانت تلك أفكاراً واضحة عرضها الملك بكل بساطة، رداً على كل محاولات كيسينجر لدفع دبلوماسيته إلى الأمام.
إدوارد شيهان، أحد الصحافيين الذين مازحهم كيسينجر في الطائرة، أجرى ذلك اليوم مقابلة حصرية مع الملك فيصل، وسأله عن عائدية الأماكن المقدسة في القدس الشريف، فأجابه الملك: المسلمون والمسيحيون فقط لهم أماكن مقدسة وحقوق في القدس، ولا وجود لمقدسات عند اليهود هناك. وسأل الصحافي: وحائط المبكى؟ فكرر الملك فيصل: ليس لليهود أي حقوق في القدس. واستشهد بتقرير لعصبة الأمم جاء فيه أن حائط البراق (المبكى) جزء من المسجد الأقصى. وأضاف الملك: يمكنهم بناء حائط آخر يبكون أمامه".