أرشيف تصنيف 'سمير عطا الله'

26 أكتوبر 2013

"عندما تغادر البوسطة ساحة القرية،
يرفرف خلفها طير، أو فراشة، كما لو كانت
سفينة مهاجرة يودِّعها النوْرَس لحظة الإبحار"
أورتيغا

 

المسألة، دائماً، أن المتفردين لا يرحلون كأفراد. أحياناً يرحلون كجماعة، وأحياناً كظاهرة، وأحياناً كمرحلة وقَّعوا على بدايتها وصار موتهم خاتمتها. وديع الصافي مرحلة بدأت منتصف القرن الماضي مع جمالات القرن الماضي، وانتهت مع عذابات هذا القرن. لن يغنّي أحد لبنان بعد اليوم "كقطعة سما"، لأنه أصبح قطعة من هباء الشرق، ولن يكتب الشعراء من بعده أغنية تبدأ بـ"طلّ الصباح وزقزق العصفور"، لأن العصافير لم تعد تأمَن المرور حتى في طريق الهجرة. لن يعاتب عاشق حبيبته بثلاثة أحرف حزينة، مهزومة، مثل عرائش الخريف: ولو!…
كتب له هذه الأغنية أسعد السبعلي، الذي تحدّث إلى جيزيل خوري عن شبابه في بيروت، جالساً حول موقد فقير في الجبل. قال لها إنه أحب زوجته حباً كثيراً. خطبَها وتزوَّجها، وحملها معه إلى البيت الزوجي، هنا، في الجبل، حول الموقد. كيف؟ ركبا معاً البوسطة من بيروت. مبروك يا أسعد.
لم يكن السبعلي يُدرك أنه يُبكي السامعين في حكاية تشبه أفراح الرسوم المتحركة. لكنَّنا كنّا نتأمّل في تذكاراته وفي الموقد الشحيح، ونتذكّر تلك الكوكبة التي نزلت من الجبال، بفقر وقِلّة وحلم كبير، لتصوغ صورة لبنان الجديد. لبنان المُغنّى. نزل الصافي من تومات (مرتفعات) نيحا، والسبعلي من سبعل، والرحابنة من مراعي الشوير، ولا أدري من أين نزل أسعد سابا، ومن الغباطية في جوَارنا نزل مارون كرم، ومن مرارات الفقر ولؤمه، نزل بحدّته ومرارته توفيق بركات، ومن وادي شحرور أطلَّت شحرورة الوادي، ومن مزيارة ركب يونس الابن الغيم والضباب، ومن مشغرة جاء لورد الفولكلور زكي ناصيف.
القاسم المشترك بينهم لم يكن وحده الصوت، ولا نوع الموسيقى، ولا جزالة الشعر. كان، أنهم أتوا من جبل مأخوذ بطمأنينته إلى مدينة مشغولة بقلقها، خائفة على غدها. كانوا مرتضين بكفاية اسمها لبنان، فوجدوا مدناً لا ترتضيه. رأوا الساحل، بعكس الجبل، متواطئاً مع الخارج، خجولاً بالداخل، الذي أدار له ظهره. غنّوا للجبل من أجل أن تفرح الولاية وتفرد لهم مكاناً وقبولاً.
على كتفَيه حمل وديع الصافي الجبل، تساعده حنجرة من صوّان ونشوة ووديان. لم تُذبه المدينة، وأيضاً لم تشذِّب الريفيّ الذي فيه، ولم تخفّف حَذر القرى، وخوفها من الديب، وغدر المواسم. الحذر منعه من أن يسلِّم ثروته الالماسية إلى خبير يعدّد آفاقها. الرحابنة لم يتوقفوا عن توسُّل الصقل وسبر الآفاق. صغاراً لجأوا إلى مدرسة الأب بولس الأشقر، معلِّم الموسيقى الوحيد في متناولهم، وكباراً اعتمدوا خُبُرات صبري الشريف، القادم من "الشرق الأدنى". وقد ظلّ "الموزِّع" لهم الموسيقى طوال سِفر الأغنية، في عطائهم المشترك.
وديع كان معتدّاً بصوته، يعتقد أنه فوق اللحن والشعر. لذلك أخفق في العمل الجماعي. وفات، كما فات الفن والموسيقى، استمرار ظهوراته مع فيروز وصباح، وبقي أسير عُوده وحده، بينما تنقَّل الرحابنة في الألوان، من تانغو "البالوما" وميلانكوليا "عتاب" إلى هدير "أجراس العودة"، ومن فخر الدين إلى بترا، المملكة المحفورة في صخر.
على أن وديع صمَد بلونه ووحدانيّته. نقل لبنان وجبله إلى مسارح تونس والكويت ومصر. حمله إلى اللبنانيين الذائبين حنيناً، في البرازيل وأميركا الشمالية، وأوروبا، إلى وفر الصبا.
كان له طقس في الغناء: مهما غنّى خلال السهرة لنفسه أو لسواه، لا بدّ أن يبدأ بأغنية عن لبنان، ويختم بأغنية للبنان. كان يعتبر لبنان مسؤولية رعوية، مثل أولاده، الذين جعلهم فرقته الخاصة. لا غرباء في البيت. حتى عندما أراد شريكة في الغناء، اختار زوجة ابنه. هكذا حرم نفسه وحرم الفن والإبداع، استمرار تلك الشركة العابرة مع فيروز أو صباح، أو نجاح سلام.
يا أستاذنا الحبيب، قلت له مرة، تخيَّل هذا المشهد: أنت وفيروز وصباح على مسرح واحد، تغنّون، أي شيء من دفاتركم. تصدحون. تدندنون. أنت على عُودك. صباح على زُلُفِها. فيروز على قمرها. تصوّر… لا تحرموا العالم العربي هذا اللقاء.
لم يخرج القروي من وديع. قطع كل هذا التمنّي بغضبة نيحاوية: "روح يا سَندي احكي فيروز وبعدين رجاع". لم أرُح طبعاً إلى فيروز. أنا كنت أتحدث إليه كحالم يذهب إلى سماعه في باريس وفي لندن وفي الحازمية، وليس كراعي حفلات.
إنها روح الفنّان. أو روح الإنسان. كان وديع يرتِّل إلى الله طوال النهار، شاكراً نِعَمه. يُقيم النذور في الكنائس، ويتطلَّع إلى السماء ويبلِّغها همساً امتنانه. لكنه كان دائم العتب على الأرض وأهلها وديارها. وعلى رغم المكان الذي بلغه، ظلّ يشعر بالخوف. لم تخرج القرية منه. اثنان لا يؤتمنان: الفقر والديب. وفي طريقه الطويل كم رأى من حوله الفنّانين يسقطون في الفقر والنسيان والإهمال. نجوم لامعة تبهت وتسقط. النزلة الأخيرة عن المسرح قَدَم أولى في الموت المهني، وأحياناً حتى في موات الحياة وضنى الأيام. كم رآهم من حوله مَرضى لا يملكون العلاج، ومعوَزين لا يملكون حتى الستر، وكم سمع عنهم في مصر لم يعد لهم رفاق سوى القطط.
كانوا فرقة سلاح المواهب وفرسان الجبل. فيما كان الكونسرفاتوار يعلِّم الموسيقى للقادرين، كان عاصي الرحباني يتسقَّط علم الألحان من النوافذ. فيما كان أحمد رامي يعرِّب الخيّام لأم كلثوم، كان أسعد السبعلي يكتب "ولَو" لوديع الصافي. فيما كان الزجل المصري يرقرق العيون، كان الزجل اللبناني يهدهد الجفون. فرقة الروَّاد الذين يأتون مرة واحدة ليفاجئوا العصر. ينزلون من نيحا ومن سبعل ومن طريق النحل وليس لهم في بيروت إلاَّغرفة شقيّة بلا أثاث، خلف سوق النجارين. خلف سوق الحدادين. خلف سوق العطّارات! كان القرويّون المندهشون يسمّون كل شارع سوقاً. كانوا الجبل وكانت بيروت مجموعة قرى ساحلية متلاصقة. آباؤهم مرّوا بها فقط لكي يركبوا ميناءها على عجل. هم أداروا ظهورهم للميناء. "لن يبنوا أنّى نشأ لبنانا" كما صاح سعيد عقل، بل سوف يبنون لبناناً صغيراً هنا، في العاصمة المولودة حديثاً، وسوف يحاولون إغراء بقية الجبليين بالبقاء، أمّا أهل المدينة، ورجال "مؤتمر الساحل"، فسوف يحاولون إغراءهم بالقبول بهذه الدولة الجديدة، دولة يُغنّى لها، ووطن يٌشهِرُ حبّه بلا خجل، يتفرّد أهله بالأشياء الجميلة.
يقول الحَبر كلود فرولو في "أحدب نوتردام": الكتاب سوف يقتل العمارة! قتل الكتاب اللبناني غول الأحجام. ارتضى العرب بشارة الخوري خليفة لأحمد شوقي. حوَّل الرحابنة قلعة بعلبك الصامتة كدهرها، قلعة تغوي القمر بالاقتراب ليسمع جيّداً ماذا تغنّيه. ذهب وديع إلى نهر الكلب، ينافسهم وينكي إهمالهم له، فغرق في شختورة المنافسة. مسح بلَل الغرق وقام.
شكّلوا، مجموعة أو أفراداً، مصرفاً هائلاً لم يُكتب اسمه على أي مبنى: مصرف تسليف الفرح. مصنع تصدير الفَرَح. شركة توصيل العشّاق حتى بالبوسطة. الفرقة المجانية لموسيقى وأغاني الأعراس. في الجبل وفي المدينة، في السهول وفي السهوب، كانوا يغنّون فتطرَب الأرض وتردّد الوديان. مخمَّس مردود.
صار العالم العربي يحب لبنان ويغبطه. بلد لا نيلَ فيه ولا كرنك، لكن الأمَّة تصغي إليه كما تصغي إلى أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم. بلد عاميَّةٌ صعبة وضيِّقة وألفاظها خشنة و"دبشة"، ومع ذلك يضعه مغنّوه على البرنامج الإذاعي في الجزائر أو تونس أو جيبوتي.
لم يعد هناك اليوم شيء يُدعى الجبل إلاّ بالمعنى السياسي. بالمعنى الشعري والفنّي، صار جزءاً من المدينة. انطوى مسرحه وانطوت تقاليده وتغيَّر معناه. استراحت القافلة. لم يعد "ناي" جوزف أيوب يتفرّد "صولو" في الأغاني كلما أراد المغني شدّنا إلى عالم الرعيان وصفاء الأودية. مرحلة ومضت… جبل وهوى.
النهار

9 يونيو 2012

"في عقول الصغار السعيدة تقع المصابات بالترتيب المبسّط: يغيب أولا الجد والجدة، ثم الأب والأم. اذا كنت محظوظا، هكذا تتراتب الغيابات، بحيث يخفف من حزنك الشعور بأنهم عاشوا مدى أعمارهم". هكذا يكتب فيليب روث. في المأساة الكبرى، يحدث العكس تماماً: تغيب، أولا، نايلة الصغرى. وقبل ان تغيب، تقول لوالدها في مستشفى لندن: بابا، افعل شيئا، فأنا لا أريد ان أموت. تركت له درسا في مدى العجز البشري، وغابت. ثم غابت ناديا، وقد فقدت في الايام الاخيرة شعرها وشجاعتها ولم تعد تستطيع، من أجله، مقاومة البكاء. لم تكن تريد ان تفارقه. ثم غاب عز الغياب، مكرم، قبيل عودته الى هارفرد، حيث كان يفترض ان يكمل ما بدأه الأب. ثم حدث الغياب الذي طالما ارتعد من التفكير فيه: قتل جبران في بركة من الحبر والحرية. بعده، راح الشتاء يحيط بالعرين.
غمرت الثلوج الابواب وغطت النوافذ، وشلت الطرقات. ورأينا انحناءته اللطيفة، التي كانت جزءا من حضوره الكثير، تنكسر به وتلوي خلايا الصلابة فيه. لم يفقد في جبران بكره وحلمه بل استمراريته. قبّل جبين نايلة وناديا ومكرم مودعاً، لكنه عاتب قتلة جبران محترقاً: كيف لا تتركون لنا جبيناً نقبله؟
حرصت في الاشهر الاخيرة ان أقبل يده مسلما وأن أقبل جبينه مودعا. كنت أشعر انه في صمته وتعذبه في محاولة النطق يعطينا الدرس الاخير. أمضينا نصف قرن معه وهو المعلم. هو الاستاذ. هو الشاهق ونحن الظلال. كبرنا وانما فقط كظل في ظل قامته. وكانت ترعبنا فكرة الغياب. ستدخل القامة في الغروب ويتيه الظل في جمع نفسه. ستفقد الظلال أصلها.
في "الدرس الاخير" يفزع ألفونس دوديه عندما يبلغ مع أبناء صفه ان الاستاذ هاميل سوف يتوقف عن التعليم بعد اليوم، فيسأل نفسه، كيف سوف يغيب الاستاذ هاميل وأنا لم أتعلم شيئا بعد؟ عندما دبّ الشتاء في عرين بيت مري وأخذ الثلج يتراكم، كنت أعترف له في صمت انه لم يخيل لنا ان الدروس سوف تقفل ذات يوم. أضعنا الكثير من الوقت في ما لم نتعلم. وما حفظناه كان ضئيلا على ما علّم. لقبناه "المعلم"، ليس بمعنى صاحب العمل، بل بمعنى الاستاذ هاميل. أي الذي، عندما يتوقف، تدرك انك لم تتعلم شيئا بعد. الدرس الاخير.
الكِبَر لا يعلّم. كانت "النهار" مليئة بأشياء اليوم الصغيرة. غيرة وضعف ونم وضعف وأخطاء وخواءات عابرة وضعف وبشر ومتزاحمون وخائفون وضعفاء. وظل في الطابق التاسع، شاهقاً وصلباً، يحرك الحلول ويجمّد النوازع. كان لكل فرد في "النهار" دور ما، صغيراً أو أساسياً، أما هو فكان، هو "النهار". هو شجاعتها، وهو فكرها، وهو حمايتها، وهو ادارة صعوباتها، وهو تدبير كفافها، وهو من يحلم عن نفسه وعنا. لم يكن في "النهار" حلم سواه. لم يكن أحد يجرؤ على المغامرة. وظل دارتانيان وحيدا على فرسه، وحيدا يعبر الغاب. ولم يكن يتبقى سوى ان يكتب المسيو دوما، رواية جديدة، ليس فيها أربعة فرسان. فارس واحد وحصان قادر على حمل الفارس وخلفه الأميرة.
أينما كان، كان هو الرجل والمكان. يخطف الضوء والاعجاب والاصغاء. صحافياً ووزيراً وسفيراً ونائباً ومحاضراً. كم كان حضوره كثيراً. كم بسببه حزنت الناس لأن الشرط الماروني أغلق دونه باب الرئاسة، من دون ان يفرض ألق غسان تويني وآفاقه وسعة عالمه.
كنا قريبين منه الى درجة أغفلتنا عن كونه مجنحاً. لعن الله الإلفة كم تخفي من دلائل العلو. لم ننتبه انه لم يكتب مرة عن مصابه ولم يئن بجروحه. لم يتبذل للحياة، ولا تبذل للموت. عبر بهما واليهما، كما تعلم في الفسلفة اليونانية وفي الكنيسة، التي كاد يكون حبراً من أحبارها، أنهما خلطة الوجود. كلاهما طريق مفض الى حتمية الآخر، الحياة تلد الموت. وقد ولدت له موتا كثيرا.
لكن، فقط، عندما لم يعد في امكانه ان يكتب افتتاحية الاثنين او حتى ان يمليها، تعثر شخصه المتنوع والمتفرد والحالم والشجاع بجفاف الجسد وهشاشة العضل والعظام. بدأ هذا عندما أبلغ بأكثر شيء أخفاه: ان يكون هو، قد دفع السجن ثمن الحرية، فيما سوف يدفع جبران في زمن القتل شبابه ثمنا لها. شعرنا ان أعمدة الكاتدرائية التي طالما ساندها بكفتيه، سوف تبدأ في التشقق. لقد جربته الحياة بأقصى احجياتها: اعطته اجمل ما عندها، وتركت الموت يأخذ منه اجمل من عنده.
كان انطون تشيكوف يقول لكاتب شاب، نصيحتي ان تكتب. اكتب. واستمر تكتب الى ان تلتف اصابع يدك على بعضها. وبعدها حاول ايضاً. كان تشيكوف طبيباً، فكان يعرف ان الاصابع تطبق على نفسها عندما يعتي عليها العمر. وفي الاشهر الاخيرة كنت ارفع يده لأقبلها، فيداً منقبضة ألقى. لا افتتاحية الاثنين بعد اليوم. وسوف يأخذ المعلم معه الدرس الاخير.
كان قائد الفرقة الذي يعرف دور الوتر اكثر من صاحب الكمان. ويعرف متى العلو ومتى تقرع القرع ضرباً سريعاً. هو الادارة وهو التحرير وهو نوعية الورق. وهو يسدد الديون عن الكتّاب المسرفين في جهل الحساب. يقول الفونس دوديه: "والآن ادركت لماذا جاء شيوخ القرية وجلسوا هناك، في آخر الصف. لأنهم شعروا بالأسف لكونهم لم يحضروا صفوف الاستاذ هاميل اكثر. كانت هذه طريقتهم في ان يشكروا الاستاذ على اربعين عاماً من الخدمة الامينة، وفي اظهار إخلاصهم للوطن الذي لم يعد وطنهم".
خاف التلميذ دوديه ان يطلب منه الاستاذ هاميل، ان يسمع ما لم ينجح ابداً في حفظه: اسم الفاعل! دعاه الاستاذ الى الوقوف: "لن اؤنبك هذه المرة، لانك تشعر بالذنب بما يكفي. هل ترى الآن كيف كنا نقول لانفسنا: تباً. أمامنا الكثير من الوقت. سوف اتعلم الدرس غداً. واليك ما هي النتيجة الآن. آه، هذه هي مشكلة اهل الالزاس الكبرى: يؤجلون التعلم الى غد. لكن لست وحدك ايها المسكين الصغير. جميعنا لدينا الكثير مما نندم عليه".
لم يكن المعلم يعطي الدروس لنا وحدنا. صف صباح الاثنين كان للعموم: درس الوطن والحرية: حاذروا فقد سقط من حولكم الجدار. حاذروا فالسقف ينهار فوق الجميع. حاذروا فالعسكر يكرهون الحريات ويبنون السجون للرأي والنقاش. كان معجباً، اكثر من اي احد آخر، بالاحرار الذين اختلف معهم في الرؤية الى الوطن: موسى الصدر وكمال جنبلاط ورشيد كرامي. هل هو القدر ام التلاعب به؟ ان يغيب الثلاثة في حرب واحدة على لبنان.
كان يسميها "حروب الآخرين"، ويأبى ان يكمل العنوان: "بأدوات محلية ساقطة وايد لبنانية رخيصة وقلوب كافرة بالارض". تجاهل ما كان يروي لنا عن السبوت السود والرش على جدران الباشورة وحواجز البربير، خوفاً من ان ينكر وطنه، فضّل النكران عن شعبه. لم يصدق يوماً ان اللبنانيين الذين انتخبوه ابن 25 عاماً اسقطوه ملكاً ابن اربعين. كان لبنانه كذبة جميلة: جورج شحادة وصنوبرات بيت مري في نسائم المساء، وحوارات ظهر الاحد. عاشق الاوطان هو ايضاً لا يدرك انها مرضى بشعوبها.
"هل سوف يفرضون على الحمام ايضاً ان يهدل بالالمانية" يتساءل دوديه، وهو يتأمل الاستاذ هاميل يجمع اوراقه وقد ارتدى بذلة الاحد، بدل ثياب الاسبوع: "كيفما تطلعت، رأيت الاستاذ هاميل ساكناً يحملق في شيء ثم في آخر، كأنه يريد ان يثبت في ذاكرته صورة الصف، تخيّل. لقد ظل هناك في هذا المكان طوال اربعين عاماً، حديقته الصغيرة خارج النافذة وتلامذته امامه. فقط الطاولات والمقاعد حفت، لكن أشجار الجوز في الحديقة تباسقت والعريشة التي زرعها تسلقت الجدار وحدائد النافذة حتى السطح. كم كسر قلبه ان يودع هذا المشهد. كما اذكر ذلك الدرس الاخير.
كان ايضاً المعلّم الاول والمعلّم الاخير. وكان حضوره كثيراً، في الصحافة في اللغات في الثقافات وفي الرفعة. قال تشيكوف للكاتب ايفان بونين في درسه الاول له: "لا تدع يديك تخملان. اكتب طوال الوقت طوال حياتك". ثم قال: "لماذا تعتقد ان تولستوي يمتدحنا؟ لانه ينظر الينا كأطفال. كل ما كتبناه لعب اطفال بالنسبة اليه".
عندما كنت شاباً وكان في ذروته ملكاً، كان يصل صباح الاثنين الى "النهار" ويتصل بي من الطابق التاسع: "هل قرأت الافتتاحية؟ عجل اقرأها. انا احاول ان اقلد انشاءك". واضحك من نفسي في الطابق الثاني، قائلاً: "ايها المعلّم. هكذا كان تولستوي يسخر من مقلديه".

16 مايو 2012

 

لاحظ ألبير كامو مرة أن جان بول سارتر يتودد إلى سيدة جميلة بالكثير من التوسل، فقال له: «ما بك؟ ألا تعرف حجمك بين الناس؟». فرد سارتر بأسى: «بشرفك، ألم تنتبه إلى وجهي؟». كانا أشهر مفكرين وكاتبين في فرنسا القرن الماضي على نقيضي الملامح: سارتر أقرب إلى الدمامة، وكامو على وسامة ظاهرة، يلقبه الناس «همفري بوغارت» ساحر هوليوود في الخمسينات وبطل الفيلم الكلاسيكي «كازابلانكا»، أو الدار البيضاء.
البعض أحب كامو كاتبا أيضا أكثر من سارتر. وأحبوه إنسانا. رفض الجزائريون اعتباره جزائريا، وتأخر الكثيرون من الفرنسيين في اعتباره فرنسيا. وظل بالنسبة إلى الجميع «متوسطيا» بدماء فرنسية. ناصر الثورة الجزائرية من موقع إنساني واعتراضا على السياسة الاستعمارية. لكن الثورة حاربته عندما قال إن العبودية لا تتجزأ.
كان والده جنديا بسيطا مات وهو في سنته الأولى. وعملت والدته شغالة تنظف المنازل. ولذلك قال «ما دامت أمي راكعة على ركبتيها تمسح البلاط، فهي ضحية الاستعمار مثل سواها». ليس جميع الفرنسيين طفوليين. أفادت فرنسا، لا الجزائر، من ألق كامو الأدبي، مع أن أعماله الأولى تدور في الجزائر، حيث ولد ونشأ. وكذلك روايته «الطاعون» التي حملت إليه «نوبل» الآداب. لكنه لم يهنأ بالجائزة طويلا، فما لبث أن قتل في حادث سيارة يقودها ناشره. لطالما كتب عن العبث فإذا العبث يأتيه وهو في عز مجده الأدبي.
في المكتبات الآن مؤلف آخر عن كامو، هذه المرة من وضع ابنته كاثرين. تفاخر الابنة بوسامة الأب وتملأ الكتاب بالصور شهادة على الحنين إلى الرجل الذي اشتهرت به الأماكن التي تردد عليها والصحف التي كتب افتتاحياتها من دون توقيع.
كان كامو سلسا وبسيطا بعكس سارتر. وكان أكثر صدقا، بينما كان سارتر «أكثر واقعية». وربما لعبت ظروف النشأة دورا أساسيا كما تفعل في حياة جميع الناس. فقد كان سارتر، كما يروي في «الكلمات»، من إحدى العائلات البورجوازية.
اقترب كامو من الشيوعيين بادئ الأمر، لكنه ابتعد سريعا، بعكس سارتر. والتزم المثل والقيم الجماعية البسيطة، كالحرية والمساواة، لكنه أعطاها بعدا إنسانيا ذا شجى وأثر. ويقول الناقد آدم كوبنك «إنه لم يكن جديا، بل حزينا». عام 1951 بدأ كامو في الابتعاد عن سارتر بسبب التصاق الأخير بالحزب الشيوعي، بينما بشر سارتر بالعنف قال كامو: «لا ضحايا ولا جلادون».
لا لجميع «اليائيات» قال كامو: «لا للنازية وللشيوعية وللفاشية وللستالينية. ولد الإنسان حرا ليس من أجل أن يصبح عبدا لطاغية – أو مجموعة طغاة – آيديولوجيين. ولعل روايته «أسطورة سيزيف» تلخص فلسفته البسيطة في الحياة: الإنسان مخلوق مكافح. يولد وتكون الصخرة قد ولدت قبله. وعليه أن يمضي العمر محاولا رفعها إلى رأس الجبل. كلما أخفق عليه أن يحاول من جديد. وإلا هوت وطحنته. 

سمير عطالله – الشرق الأوسط

23 أبريل 2011

"قرن من أجل لا شيء" كما سماه غسان تويني. سنوات العجف والبدد، وخيول داحس والغبراء. لم نمض العقود فقط في النزاعات الدموية، مصر والسودان، مصر واليمن، المغرب والجزائر، ليبيا والجميع، بل نقلنا القضية الفلسطينية من حرب على اسرائيل، الى حرب أهلية في الاردن، ثم حرب جماعية في لبنان، انتهت بوصول شارون الى بعبدا وخروج "الثورة" الى تونس، ومن ثم وصولها الى منزل صغير سري في اوسلو.
تدفع الامة اليوم ثمن قرون من غياب البديهيات التي نظمت حياة الامم واقامت نهوضها: القانون والحريات وضمان كفاية المواطن. كان حسني مبارك ينوي ان يماثل سابقيه: لا يخرج من الرئاسة الا الى الضريح. ذهبت، ماشياً، الى "منصة 6 اكتوبر" في مدينة نصر، لأرى المكان الذي اغتيل فيه انور السادات وهو يحتفل بذكرى العبور. لم أرَ سوى مدرجات جرداء علاها شيء من سواد العتق والاهمال. تأملت البلاد من جديد، وقلت في نفسي: اللعنة على البلاط وعلى الغبار، ذلك الغبار المذرّ في العمر وفي الريح، ويتكرر على ايقاع حزين في ديوان روبير غانم "ميتافيزيق". وماذا يأخذ الحاكم الى ضريحه سوى سمعة التاريخ وألق المناقب؟ بماذا يُذكر إلا بما تواضع الى شعبه وكبرت به دولته؟ "

افتتاحية النهار

23 أبريل 2011

" تقدمت الامم ونحن قعود. واذا قمنا فلكي نقاتل بعضنا البعض. دائماً محملين بأطنان الذرائع واكوام الخطب. ولا شيء في الارض يبرر السبات في الجهل والتخلّف. عندما سافرت الى أوروبا كان قد مضى 15 عاماً على نهاية الحرب التي دمرت القارة وافنت طاقاتها. وبعد عقد ونصف عقد لم يكن ثمة أمر لمدن الرماد وعداوات الموت: وصارت قارة الفاشية قارة الصفح. اعادت كل دولة احياء مؤسساتها، وأعادت كل مؤسسة احياء مسؤوليتها وقوانينها. وعندما ذهبت الشعوب تختار رجالها، دققت اولاً في سيرتهم الذاتية، اشتراكيين وشيوعيين ويمينيين. كونراد اديناور وشارل ديغول وموريس توريز وفيلي برانت وونستون تشرشل. وحتى ايطاليا، التي تجدد منذ عشرين عاماً لمغني السفن برلوسكوني تعقلت يومها وأحلّت السنيور امينتوري فاتفاني وأمثاله "

افتتاحية النهار