" لا أتذكر , ربما كان ذلك في "أبدون" . نعم فعلاً , لقد كتبت مرات عديدة عن سوء الفهم هذا المتعلق بالتقدم في الفن . كانت فكرة التقدم بالمعنى العام للكلمة , إحدى الركائز الكبرى للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر بخاصة , على الرغم من أنها لا تزال حتى هذا القرن حية لدى معظم الناس . يجب أن لا نعتقد أن القرون تنصرم على واقع صافرة , في الوقت ذاته بالنسبة إلى الجميع في القرن التاسع عشر , كان كتّاب من أمثال "دوستويفسكي" ومفكرون من أمثال "نيتشه" و "كيركيغارد" , ينتمون إلى عصرنا , وليس هذا وحسب , بل إنهم رأوا في خضم التفاؤل الشامل الكارثة التي ألقت بثقلها على كواهلنا . وعصرنا , في المقابل يحفل بكتّاب ومفكرين يعتقدون أنهم من القرن العشرين , ولكنهم في واقع الأمر ينتمون إلى القرن التاسع عشر . هناك في جميع الأحوال تقدم في الفكر الخالص وفي العلوم , وليس في الفن . إن الفن لا يتقدم , والسبب أن الأحلام ذاتها لا تتقدم : هل كوابيس عصرنا أفضل من كوابيس عصر يوسف التوراتي ؟ إن رياضيات "إنشتاين" تتفوق على رياضيات "أرخميدس" ولكن عوليس "جويس" ليست أسمى من عوليس "هوميروس" . تعتقد إحدى شخصيات "بروست" .. إحدى سيداته التي تثير السخرية , أن "ديبوسي" يتفوق على "بيتهوفن" لا لشيء إلا لأنه أتى بعده . لست متأكداً من اسميّ الموسيقيين , ولكنني متأكد من دعابة "بروست" اللامعة . يتوصل الفنان في كل حين إلى ما يمكن أن نسميه مطلقاً , أو جزءً من المطلق بمعناه العام . وهذا ينطبق على تمثال من عصر رمسيس الثاني , من تلك التماثيل الغامضة الهائلة , أو تمثال من عصر الواقعية اليونانية , أو من تماثيل دوناتوللي . لقد وصل الأمر بالغطرسة الأوربية "التقدمية" إلى حد التفكير بأن المصريين كانوا ينحتون على ذلك النحو بسبب عجزهم عن تمثيل العالم الخارجي كما هو , وكذلك الطبيعة والجسم .. ذلك خطأ تؤكده التماثيل التي وجدت في قبورهم , فهي تماثيل عبيد أو صنّاع مهرة نحتت حسب أدق المقاييس الواقعية وأشدّها صرامة . لا , بحق الله ! كانوا ينحتون فراعنتهم الأموات , أو آلهتهم بهذا الشكل الهندسي والمجرد لأن الواقع الحقيقي بالنسبة إليهم لم يكن هذا العالم العابر , عالم الأنهار والأحصنة التي تجري وأجسامنا التي تهرم وتموت , وإنما واقع مابعد الموت , ذلك الواقع ثابت . ومالذي يشبه ذلك الواقع الثابت الأبدي في عالمنا هذا ؟ إنها الهندسة . لذلك فإن فنهم كان يستجيب , بوعي وبلا وعي , لغيبيتهم . لمعنى وجودهم الحقيقي والخادع . كانت هذه الحياة خادعة , والحقيقي هو الموت وخلودهم "
إرنستو ساباتو بين الحرف والدم