“مشكلة زمننا هذا، أن المستقبل لم يعد كما كان”.
بول فاليري
في بروق الذاكرة صورة سوق الصاغة في بيروت. كان فسحة صغيرة تلمع فيها أضواء كثيرة معكوسة على صفوف من الأساور في الواجهات، كأنها واجهة واحدة. وكانت أمي تأخذني معها إلى هناك لكي ترهن سواراً آخر، أو أخيراً. ولم تستطع أن تفكّ الرهن مرة. لكنها لم تكن تريد أن تفزعنا بكلمة بيع.
بقي لمَعان الأساور المضيئة في ذاكرتي. وصورة الصيّاغين منكبّين في المحترف الصغير على مصانعة الذهب، يساعدهم منظار مكبِّر فوق النظارتين.
مثل سوق الصاغة الذي أُغلق على ذاكرة بيروت، غابوا في عام واحد: أرباب الصياغة وصنّاع الأحرف. صاغة في الشعر، صاغة في النثر، صاغة في الفصيح، في العامية، في القوافي وفي النثر الذهبي. في عام واحد: أنسي الحاج. جوزف حرب. جورج جرداق وسعيد عقل. قافلة أفرح غناؤها اللغة، وأحزن حدّاؤها دروب الغياب.
كان جول رينار ينصح الكتّاب دوماً: “ضعْ قمراً صغيراً في ما تكتب”. وضعوا بدوراً في ما كتبوا. حملوا أضواء القمر معهم من الريف، حيث يكون أكثر صفاء ونعمة “يتأنّى ويخطر ويفرش الضوء” ويخصّب المخيّلات والمشاعر ويوسّع دائرة الحنان وزوايا الحنين.
هذا، قاسم. أي الريف. قرية أو بلدة أو مدينة مثل زحلة، كان سعيد عقل يحلم بأن منها، كما بدأ البارون هوسمان عضو بلدية في بوردو (النبيذ مجرد مصادفة)، ينتقل بعدها إلى صناعة جمال العاصمة. كان سعيد عقل مكلَّفاً، في جملة ما هو مكلَّف من وكالات مطلقة، حراسة الجمال أنّى وُجد.
القاسم الثاني كان فيروز. هناك الشعر، شعراً أو عاميا، وهناك الشعر إذا غنّته فيروز. وقد غنّت منحوتات سعيد عقل، وغنّت “باللغا اللبنانيي”، كما غنّت لجوزف حرب بالفصحى والعامية، وغناها أنسي الحاج بأجمل ما عَقَدَ وأفردَ وصاغَ من نثر وابتهال.
القاسم الثالث، المرحلة، لبنان في عقوده الذهبية يطوف في رومانسيات الشعر والحب والغناء. بلد ذهبي صغير يطلّ منه مرة عاصي – مرة منصور – مرة سعيد عقل، ودائماً تُشرق “حارسة المفاتيح”. تضع قمراً في كل كلمة وبدراً في كل لحن، وأرضاً في كل غياب.
لم يعد للسنين أحداث مفرحة. روزنامة سوداء. ختم هذا القرن نفسه بآخر أغصان المسك. مائة عام من الصيّاغين ومعرض دائم للآلئ. بيروت المتوسط المرصع، تفيض في الداخل ببحر من الحبر. كان هذا قرن الأدب وجبابرة المغنى. انتهى. fin de siècle. انتهى. كلما حاولتَ أن تعدِّد لكي تُحصي، شعرتَ بكم ظَلمت ممن نَسيت. من 1914 إلى 2014 تحتاج إلى مجلّد ومتحف. هذه المدينة التي نقلت الحركة الأدبية إلى مصر ونيويورك في بدايات القرن، ما لبثت أن استعادت حقوق النشوء: حركة الرمز انطلقت من هنا. حركة الحداثة من هنا. الرسم والنحت. وبعدما أقامت إمارة الشعر في مصر على أغصان شوقي ومقام الكرد استعادها الأخطل الصغير حزيناً: اليومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري.
استعادت جبران رفات تمشي في جنازته الكنيسة التي تمرّد عليها. واستعادت ميخائيل نعيمه شاباً يكتب بدائعه من شخروب بسكنتا في سفح صنين. واستعادت أمين الريحاني إلى حنين الموت في الفريكة على درّاجة. طاف الصحارى والبراري والبحار، مخاطباً الملوك والشيوخ والرحّالين، وعاد إلى الفريكة ينهي مغامراته على دراجة بلهاء. وإليها عاد في زيارة قليلة شاعر الطلسم إيليا أبي ماضي معاتباً “وطن النجوم” حدِّق، أتذكر من أنا؟ حدِّق.
لم يعرفه وطن النجوم. كان يستقبل مي زيادة المُستعادة من مصر، أنشودة من العبقرية والجمال والحزن. أرسل القرن إلى مصر ألمع سيدتَين في الآداب والفنون: مي زيادة، شجاعة الأزمان، التي يؤمّ صالونها كبار العمالقة من أدباء المحروسة، وفاطمة اليوسف، الملقّبة روز، صبيّة التبنّي، التي سوف تُصبح سارة برنار الشرق وملكة الصحافة المصرية. وإذا كنت تريد أن تعرف ماذا أعني بسارة برنار، أرجو أن تقرأ ما كتب جول رينار عن برنار الأولى. وأرجو أن تقرأ، في كل حال، ليس لأن سارتر قال إن مع برنار بدأ الأدب الفرنسي، بل لأنك سوف تقول أنت ذلك.
آه، اللبنانيون. أعطهم ورقة، وقلَماً، ولغة. وسوف ترى. دعْك مما فعلوا في مصر ونيويورك. فماذا عن فرنسا في هذا القرن؟ ماذا عن شكري غانم في “الكوميدي فرانسيز”؟ ماذا عن مسرح جورج شحادة؟ ماذا عن شعر أندريه شديد وناديا تويني؟ وماذا عن، وماذا عن فتى الأكاديمية، أمين معلوف؟ قرن من الصيّاغين. بالعربية والفرنسية والإنكليزية والبرتغالية في بلاد البرازيل. أعطهم قلماً وورقة وخُذ فؤاد سليمان، وسعيد تقي الدين، والياس أبو شبكة، وعمر فاخوري، وعبدالله العلايلي، وحسين مروة، ورشدي المعلوف. ورقة أخرى وخُذ شفيق المعلوف وخُذ خليل رامز سركيس.
قرن الصيّاغين. صلاح لبكي، وشفيق حيدر، وشارل قرم، ويوسف غصوب وأمين نخلة. وكم نسينا. هذا الذي مضى ليس قرناً. هذا ديوان أو مكتبة وطنية أو “بانتيون”. مجمع الخالدين. أكاديمية فيها جرجي زيدان، حارس التراث الإسلامي. ووليّ الدين يكن، الوحيد الذي قيل إن مي زيادة أحبته، فيما هامَ بها العمالقة من طه حسين وعباس محمود العقاد. ومن نيويورك عشِق جبران عذوبتها حتى قيل إنه كان حبّها الوحيد.
ورقة وقلم. البعض أخذهما وقسّمهما مثل خبز الجبل: كامل مروة أنشأ “الحياة” في غرفة من غرف “النهار” التي كانت كلها ثلاث غرف. سعيد فريحة بدأ “الصياد” في غرفة على المعرض. سهيل إدريس أدار من المعرض مجلة “الآداب”، والحركة الأدبية في العالم العربي، وحركة الترجمة، وأطلق بين قرّاء العربية أعمال سارتر وكامو.
المسرح. الرواية. الشعر. الصحافة. النشر. الرسم. النحت. سوق الصيّاغين، كان هذا البلد يُشرق ويتألّق. وكانت بيروت مثل وادٍ تلتقي فيه الثلوج الذائبة من الجبال. وادٍ خصيب تملؤه أصوات التغاريد وتتجاور فيه الغصون. لم نكن نعرف مدى ذهبه وألماسه ونحن نمرّ به صفحة صفحة، فلما تجمّع بين دفّتيّ ذاته، أدركنا أنه كان قصراً من قصور الأدب، ومتحفاً من متاحف الفنون. قرن من ضياء.
مع منصور وعاصي وفيروز انتصف القرن وكأن بيروت هي سالزبورغ: “صوت الموسيقى” على التلال الخضراء. أعطهم ورقة وقلماً وكمنجة. كان منصور شرطي بلدية في النهار وعازف كمان في الليل. ويروي الشرطي أنه كان مرة في مأمورية قرب “الريفولي” عندما رأى الناس تتجمّع حول مَشيق وسيم فَلَش شعره للعلا وهي تقول “إنه سعيد عقل”. فاقترب وتفرّج. وبعد سنين قليلة كان هو وعاصي وسعيد عقل ينحتون معاً لبنان المفترض. وفي المساء كانوا يحملونه إلى فيروز كي تُغنّيه وتُعطيه ما فات الشعر والموسيقى أن يعطيا، وأن يحفرا، وأن يُهدهدا شِغاف القلوب العاشقة.
جاءها الشعراء وغنّوها. لم تحتضن فقط مواليدها، بل كما احتضنت باريس المنفيين والحالمين، ضمّت إلى صدرها كوكبة الشعر ومجاني الأدب: نزار قباني، بدر شاكر السياب، محمود درويش، نذير العظمة، أدونيس، الياس مسوح، محمد الماغوط، خالدة سعيد، علي أمين، خالد قطمة وعلي الجندي. مناهل – مناهل. فيما كانت المرأة العربية تبحث عن حقوقها كانت ليلى بعلبكي تكتب “أنا أحيا” بمعنى أنا امرأة. وكانت إميلي نصرالله ترود الرواية في “طيور أيلول” وملحمة الهجرة والحياة بين وطن مقيم وجميع أوطان الأرض المهاجرة. كان قرناً من القِطاف. كروم الشعر وحصاد الجمال وبساطة النفوس. مشاكيك صيّاغين وجوهرجية. وإذا لم ترَ سوق الصاغة وأنت ملء طفولتك فلن تعرف ما أعني. أنا أعني تلك المدينة التي تركت خلفها مجاعة 1914 لكي تمضي في صناعة الأضواء، وتدوين الموسيقى. جبابرتها الثلاثة، منصور وعاصي وفيلمون وهبه كانوا يدندنون بلا نوتات ومفاتيح.
جورج أبيض بدأ المسرح في مصر، وشوشو أزهر المسرح في سينما مهجورة اسمها شهرزاد. كيفك يا شخص… و”الشخص” كان يتقبّل المزاح إذا ما جاء عن المسرح. ضحك فؤاد شهاب طويلاً وهو يرى أنطوان كرباج يشخِّصه، برَوْعة التبدّل في الأداء، مِن غاضب إلى مستضعَف في عزلة موصدة. كأن تقول fin de siècle، بدأ في المجاعة والشهداء. ولا يزال يرفع راية الحرية. “الشمولية”، يقول التعريف، “هي رفض لكل أشكال الحرية”. إليكم ما هو لبنان من دونها.
سمير عطاالله – النهار