وااااااحشني وانت قصاد عيني ..
رامي
عبدالوهاب
الست
الحبُّ ذو العصفِ والريحانِ ينبتهُ .. من ظلمةِ الطينِ ربُّ الحبِّ والطينِ / والغيمُ من لججِ الأمواجِ يرفعهُ .. إلى السماواتِ سلطانُ السلاطينِ / يسوق للزهرِ أنساماً تزينهُ .. فيرسلُ الزهر أنغام البساتينِ / للشمس من نوره طوقٌ يزينها .. وللندى نَسبٌ من حورهِ العينِ / فقل لصاحب تاجٍ يدّعيه له .. أفقْ , فإنكَ مسكين المساكينِمحمد إقبال
الشجرة
– مقطّع لك سجر هون إنته وإلا تقريباً لا ..
– غسان : أبداً , كل واحد يقطع سجرة كان بياكل قتلة .
– وأنته اللي تطعميه القتلة ؟
غسان : ايه ..
شاديا
" شاديا : لم أكن أصدق . وما أغواني فعلاً هو التواضع الذي لا يتطابق مع فكرة الرجل الكبير , وحماسه الاستثناني الذي قلة من الشباب في العشرين من العمر يملكونه , وبعدما تعرفت إليه أكثر تدريجياً هذا الوفاء لكل ما رحل , وما يعجبني ويزعجني في الوقت عينه هو صمته عن الشكاوى التي بإمكانه التكلم عنها , لم أسمع أبداً هذا الرجل يقول : آخ ! أو " شو عمل ربنا فيي " , أبداً أبداً , هذا يزعجني لأن ذلك لا يسمح لي بالعودة إلى طبيعتي , أي أن أتذمر من مشاهدة كل هذه الأمور تأتي واحدة تلو الأخرى والقدر يعذبه بهذا الشكل " .
الايمان
" وجدت نفسي تلميذ فلسفة , فتعلمت الايمان بوجود الله من خلال المنطق , ولكن ليس الله كإنسان , بل الله كقوة , قوة خلق , وطاقة , لأن في علم الفلسفة كل سبب يؤدي إلى نتيجة وكل نتيجة تصبح سبب للنتيجة اللاحقة " .
الغفران
– ماهو الألم الذي يدعك تبكي وتظهر الضعف ؟
– غسان : ليس هناك من ألم . أحياناً أدع نفسي أبكي , فعلت ذلك مرة أو اثنين . في الكنيسة عندما كنا نصلي من أجل غابي [ جبران ] وكان النعش قريباً بكيت من كل قلبي وتكلمت من خلال دموعي .
– أيمكننا أن نتكلم عن المغفرة ؟ في أحد الأيام قلت كلمة باتت مشهورة , وقت موت جبران , أود أن أعرف ما الذي دفعك أو ما الذي ألهمك أنه يجب قول هذا في ذلك الوقت ؟
– غسان : لأنه كان ينبغي أن تدفن مع جبران قضية بكاملها . ولأني لم أجد موقفاً أخراً مناسباً أكثر . أي موقف ؟ الانتقام ! فلا أملك الوسائل لأنتقم .
– إذاً لم يكن تفكيراً ذرائعياً ولا بدم بارد بل بصدق حقيقي قلت كلمتك ؟
غسان : أجل . كان صدق الإيمان , فلقد كنت بالكنيسة , وأعجبت بكلمة المطران جورج خضر , وشعرت أن هذا الموقف الذي يستحقه غابي .
– أتظن أنه في المطلق هذا هو موقفك الوحيد ؟
– غسان : نعم .
– بالنسبة إلى جبران فقط ؟
– غسان : بل بالنسبة إلى كل القضية , قضية لبنان .
– ألا تظن أنه ينبغي اصدار حكماً ما ؟
غسان : بلى , لقد قلت لاحقاً , قلت أنني أطلب العدالة أيضاً , المغفرة والعدالة , ولكن ليس الانتقام .
– العدالة والمغفرة أو المغفرة والعدالة ؟
غسان : أتعلم ؟ الأمر سيان . ليس هناك من أسبقية فكرية بين هذه الفكرة والأخرى .
– ربما أسبقية عاطفية ؟
– غسان : عاطفية ؟ العدالة هي عزاء , أما المغفرة عزاء أكبر .
– وأنت تغفر أيضاً لكي تبقى سليم الجسد و الروح والنفس ؟
– غسان : ما لا أغفر له هو أن محاولة الاغتيال دمرت كلياً جسد جبران , من دون أن يسمحوا لنا برؤيته , ويعتبر هذا تعدياً على الخلق الإلهي , فالله خلق الإنسان على صورته , وقد تم تدمير هذه الصورة , عادة في تقاليدنا , نفتح التابوت مرة أخيرة ونضع رملاً ونقبل الميت , وكل ذلك كان مستحيلاً .
– كان حداداً صعباً إذ لم تتمكنوا من فعل كل ذلك .
غسان : لم أتمكن من رؤيته عندما كنت في المستشفى , لأرى إن كان بوسعي رؤيته في غرفة الموتى , لكنهم رفضوا , إذ كان مشوهاً بالكامل . وبعد عشرين يوماً وأربعة أشهر أرسلوا أجزاءً لنا أخرى من جسده وقالوا أنهم لم يتمكنوا من التعرف إليها قبل أربعة أشهر , وهنا يتخطى هذا الأمر الإنسان , ليبلغ ما يمثله الإنسان في مقياس القيم البشرية والإلهية .
الوطن
– أنا اسألك بصفتك أباً . شو النصيحة اللي بتعطيني أنا اياها كشاب لبناني ..
غسان : إنو يضّل هوني . وتحط رجليك بالأرض لأنو ماراح تلاقي محل أحسن من هون . ماهي الضمانة التي تملكها إذا ذهبت إلى أميركا أو إلى باريس ؟ ما الذي يستطيعون تأمينه لك أفضل مما يمكنك أنت أن تؤمنه لنفسك هنا ؟ روح الوطن لا تكون بالوجود الجسدي , فالجسد ليس أهم من الأخلاق , وليس متماسكاً كالأخلاق عندما نتكلم عن الحب لا نتكلم عن شيء مجرد بل عن شيء صلب بإمكانك لمسه تقريباً إذا قمت بمجهود . والحكمة الأقوى هي حب الوطن .
– ما الذي يحافظ على حماسك ؟
– غسان : هذا لا يتعلق بالنطاق السياسي , غالباً ما نستخدم مصطلحاً , مثلما نقول الميتافيزياء ," لكل ماهو وراء الطبيعة على مقياس المعرفة " , هناك " ما وراء السياسة " .
– وماذا يعني هذا المصطلح ؟
– غسان : يشمل كل ما يتخطى السياسة . أي علاقتك مع الوطن , مع الدولة , مع الحكومة , ليست سياسة , بل أبعد من السياسة , هي التزام الحياة البشرية .
– من أين تستمد آمالك ؟
– غسان : من إيماني .
– من أين يأتيك الايمان غير المشروط والثابت والدائم ؟
– غسان : أن الوطن لا يخون أبداً من عمل على خدمته , ومن أحبه .
من وثائقي عن غسان تويني .
وأخيراً وصل عطري بعد رحلة طويييييلة . سأتحدث أولاً عن تجربة الشراء من موقع أمازون وهي تجربة جميلة ومريحة . في البداية يجب معرفة أن أغلب المواقع الأمريكية لا تقوم بإرسال الشحنات إلى خارج أمريكا , لذلك يجب أن يكون لديك عنوان بريدي هناك يقومون بالإرسال إليه , وهو ما توفره بعض الشركات كأرامكس عن طريق خدمة شوب أند شيب , أو بعض المواقع مثل NYBox ( لم أجربه ) , ثم اكتشفت لاحقاً أن البريد السعودي يوفر ذات الخدمة وبأسعار رائعة . طريقة الاشتراك بخدمة شوب أند شيب هي التسجيل في الموقع ودفع مبلغ 45 دولار , بعد الدفع تأتي طريقة التفعيل المعقدة بعض الشيء إذ يجب أن ترسل إليهم صورة الهوية الوطنية أو الجواز , أو الذهاب إلى أحد فروعهم للتأكيد على هويتك , أعتقد أن هذا الأمر مهم لدواعي أمنية . بعد أن يتم التفعيل يقومون بإرسال عناوينكم البريدية الخاصة بكم في أمريكا , بريطانيا , الصين . استخدمت عنواني في أمريكا للشراء من أمازون , والعملية بأكملها من لحظة الطلب من الموقع حتى إرسالها إلى الرياض تأخذ من 7-10 أيام . لم أواجه أي مشاكل أو عقبات في كل طلباتي السابقة , حتى قمت بشراء عطر من أمازون , تفاجأت بعد ذلك بأرامكس يبعثون لي إيميل يخبروني أنهم لا يستطيعون إرسال العطورات , مع أني قرأت الأمور المحظور شحنها ولم أجد أن العطورات ممنوعة , وعلى أية حال هي سلعة مطلوبة وتحديد أمرها مهم جداً لا يجدر بهم أن يتركوا الأمر مبهم ويخبروني أنها من الأشياء السائلة المحظور إرسالها . سألتهم ما الحل ؟ قالوا إما أن نعيد إرسالها لأي عنوان آخر بمبلغ 15 دولار أو نحتفظ بالشحنة لمدة 60 يوم ثم نقوم باتلافها ( ويمنّون عليك أيضاً ) . يا سلام ! وبالتأكيد لم تنفع محاولتي إقناعهم أن المشكلة منهم وليست مني وأن أبسط الأمور أن يعيدوا إرسالها مجاناً إلى عنوان آخر . على أية حال وجدت في موقع البريد السعودي كما أسلفت أنهم يوفرون ذات الخدمة ( مجاناً ) على شرط أن يكون لديك عنوان واصل . وبالمصادفة كنتُ قد سجلت فيه من قبل لذلك لم أنتظر دقائق حتى حصلت على العنوان الجديد في أمريكا . أخذته وذهبت إلى أرامكس ودفعت لهم المبلغ المطلوب ليعيدوا شحنها إلى العنوان الجديد ( وهذه مشكلة أيضاً حيث يجب عليكم الحضور إلى أي من فروعهم لإتمام هذه العملية ) وبالفعل أخذ الموضوع ثلاثة أيام ووصل إلى العنوان الجديد . كنتُ قد طلبت العطر من أمازون في 29 أبريل , ووصل في 3 مايو إلى أرامكس وفي هذا اليوم 10 يونيو بعد أكثر من شهر وصلتني الشحنة عن طريق البريد السعودي .
بعض الملاحظات :
1 – أسعار أرامكس مرتفعة مقارنةً بالبريد السعودي , نصيحتي إليكم إن قمتم بشراء شيء وأردتم وصوله سريعاً استخدموا أرامكس , إن لم يكن الوقت مهماً عندكم فأنصحكم بإستخدام البريد السعودي . بالنسبة لي قمت بشراء Money clip بمبلغ 10 $ ودفعت ضعف المبلغ للشحن .
2- لا تقوم أرامكس بتجميع الشحنات وإرسالها مرة واحدة . حتى وإن كان الفرق بينهم يوماً واحداً ! ذهبت لثلاثة أيام متتالية لإستلام شحنات مختلفة . كانت بمجملها طلبات ذات وزن صغير لو أنهم أرسلوها كطرد واحد لقمت بتوفير النصف أو ربما أكثر .
3 – كنتُ أشعر بالغضب على البريد السعودي بسبب تأخيرهم الكبير , لكن حينما اتصلوا بي وأخبرني المندوب أنه قادم إليّ وسألني أي مكان تريد توصيل الشحنة إليه موقع منزلك المسجل في واصل أم مكان آخر ؟ ومجيئه في هذا الطقس الحار وفوق ذلك كان ودوداً معي أنساني هذا الغضب , الحقيقة ما أذهب غضبي أيضاً هو رائحة العطر الجميلة : ) .
4 – لم يتصلوا بي أرامكس يوماً ما ليقولوا هل تريد استلامها من هنا أم توصيلها إليك ؟ هل قام أرامكس بتوصيل أي طرود لمنازلكم ؟
غالباً ما صار يقال لي إنّ الصورة التي حفظها اللبنانيّون عنّي هي صورة الرجل الذي وقف متكلّماً، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، أمام جثمان ابنه الذي سقط اغتيالاً، ودعا إلى الصفح. أودّ أن أعلّق على هذه الصورة التي تلاحقني أو التي ألاحقها. فعندما دخل النواب رافعين النعش على سواعدهم سرعان ما عادت بي الذاكرة إلى يوم حُمِل جثمان والدي إلى هذه الكاتدرائيّة نفسها قبل عشرات السنوات، وقد مات للقضايا ذاتها إنما ليس اغتيالاً.
كان ذلك في العام 1947. فإذ كنت طالباً في جامعة هارفرد، التحقت بالوفد اللبناني إلى منظمة الأمم المتحدة عشية التصويت على قرار يبتّ مستقبل فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليها. وقد سألني كميل شمعون، رئيس الوفد اللبناني، أن أطلب إلى والدي، سفير لبنان آنذاك في الأرجنتين وفي شيلي، أن يزور سانتياغو من أجل إقناع الرئيس الشيليّ بالتصويت لصالح قضيّتنا. إلا أنّ والدي جبران لم يكن قد قدّم بعدُ أوراق اعتماده إلى الرئيس غبريال غونزاليس فيديلا. أضف أنه بسبب إقامته وقتها في بوينوس آيرس، كان عليه أن ينتقل إلى العاصمة الشيليّة في يومٍ واحد، في القطار أو بالطائرة، ما يعني القيام برحلة مُضنية. والحال أنّه كان ضعيف الصحّة ويعاني من ارتفاع الضغط. اتّصلت به من نيويورك وألححت عليه في الطلب. وبدا أن هذه الرحلة تفوق طاقته، لكنه قرّر القيام بالمحاولة مخالفاً رأي أطبائه ورأي والدتي التي رافقته. وعند وصولهما إلى سانتياغو في حالة من الإنهاك الشديد، وجدا في انتظارهما عربة خيل، هي صورة عن مجتمع أميركي جنوبي ما زال بالإجمال محافظاً ومتعلّقاً بالشكليّات، لتنقلهما للمشاركة في مأدبة أقامتها على شرف والدي الجالية العربية ذات الغالبية الفلسطينيّة. وصارت هذه العربة، إذ أستعيد صورتها فيما بعد، تذكّرني بالعربة التي تسير في طليعة المواكب الجنائزيّة. وإذ صعد أثناء السهرة إلى المنصّة ليلقي خطابه، صرعته سكتة دماغيّة. وكان، قبل عشر سنوات، قد نجا منها بـ"أعجوبة" بفضل تدخّل والدتي. لم تفلح الأمور هذه المرّة. وفي 11 تشرين الثاني، عشيّة وفاته، وجدتني أستفيق فجأة من نومي، ربما في حوالى الساعة الحادية عشرة ليلاً، وأفتح كتاب صلاة باللغة اللاتينية أهدته إليّ صديقة فأقع على صفحة صلاة الموتى. وفي الغداة، رأيت في المكتب جميع المندوبين مقطّبي الوجوه فبادرت إلى السؤال تلقائيّاً عمّا إذا كان والدي قد توفّي. فأُبلغت أنه فارق الحياة مساء الأمس وتحديداً في حوالى الساعة الحادية عشرة. ورافقني رئيس الوفد السوري، عادل إرسلان، بصفته صديق العائلة، إلى المطار حيث غادرت إلى بوينوس آيرس. وها أنا في الحادية والعشرين من عمري أجدني قد بتّ مسؤولاً، رغماً عنّي إلى حدٍ ما، عن صحيفة النهار التي يملكها والدي. وبعدها تشابكت الأحداث بشكلٍ متسارع. انضممت إلى والدتي ومعها أخوتي حيث أقيم قدّاسان الأوّل في سانتياغو والثاني أقامه اللبنانيون في ماندوزا، على الحدود الأرجنتينيّة الشيليّة، بعد أن أعيد جثمان والدي إلى بوينوس آيرس في القطار. وأخيراً تمّ إحياء قدّاس رسمي بإيعاز من الرئيس بيرون الذي شكرته بعدها على بادرته هذه. ثمّ نظّمت رحلة عودة الأسرة ورفات والدي إلى بيروت. وإذ كان السفر بالطائرة ما يزال خياراً قليل الاحتمال آنذاك، فقد فضّلت والدتي وأخوتي العودة بحراً. وبوصول الرفات إلى بيروت في 20 كانون الأوّل، نقل فوراً إلى كاتدرائيّة القديس جاورجيوس للروم الأورثوذوكس في ساحة النجمة، حيث أقيم له في اليوم التالي مأتم وطني.
ووجدتني الآن، في ذاك اليوم الواقع فيه 14 كانون الأوّل من العام 2005، واقفاً أمام جثمان ولدي الحامل اسم جدّه، وتنبّهت فجأة، أمام هذا الجمع الغفير المضخّم بعمليات النقل التلفزيوني، أنّه عليّ أن أقول شيئاً ما. فقد أنهى المطران جورج خضر كلمة التأبين وأشار إليّ بأن ألقي كلمة. وليس المطران خضر من أشهر علماء اللاهوت الأورثوذوكس في عصرنا هذا، وأحد الشخصيات العروبية المسيحية الرفيعة، بل هو رفيق شبابي، معه أنجزت دراساتي الثانوية واختصاصي في الفلسفة. وبالتأكيد لم أكن قد حضّرت شيئاً أقوله. ولم أعرف إن كان عليّ أن أتابع بلهجة المطران خضر اللاهوتية والفلسفية أم عليّ أن أجاري الحشود الصائحة معبّرة عن حزنها وغضبها. وإذ تقع كاتدرائية مار جاورجيوس في الجهة المقابلة لمجلس النواب، فقد طلب رئيسه أن ينقل إليه جثمان النائب عن الروم الأورثوذوكس جبران تويني، الذي اغتيل عشيّة ذاك اليوم مع اثنين من مرافقيه. وبعد التآم المجلس حمل النواب النعش على مناكبهم إلى الكاتدرائيّة، ولدى مرورهم رفع الحشد، هادراً مهدّداً، صور ولدي وصور سائر شهداء هذا البلد الذي سقط في سبيله الكثير منهم. ثمّ دخل الجثمان بيت الله وأنا أتساءل عمّا يمكن أن أفوه به في مثل هذه الظروف، وإلى مَنْ أتوجّه بالكلام؟ أإلى ابني الشهيد المسجّى على بعد أمتار مني؟ أم إلى رجال الدين؟ أم إلى الحضور المؤلّف من شخصيات الصفّ الأول في الحياة اللبنانية ومن أقرباء ومجهولين ومن مسحوقين مثلي؟ أم إلى الحشد الضخم في الخارج الذي تنقل إليه مكبّرات الصوت ما يجري في الداخل؟ أم إلى لبنان بأجمعه الذي يتابع الجنازة بواسطة النقل التلفزيوني؟ نظرت إلى ابنتَيْ جبران الصُغرَيَيْن، وهما توأمان ولدتا له من زواجه الثاني وليس لهما من العمر سوى أربعة أشهر. كنت في حالة غير طبيعية لا تسمح لي بمواصلة تساؤلاتي الصامتة، ومن دون أن أفكّر استندت على يد المطران وارتقيت درجات المذبح متوجّهاً إلى باب الهيكل. ومن الأعراف السائدة أن يصار قبل دفن الفقيد إلى فتح النعش مرّة أخيرة وأن يرشّ أقرب أقربائه حفنة من تراب على وجهه. لكن نظراً إلى الطريقة التي اعتمدها مدبّرو عمليّة الاغتيال، لم يعد هناك، بالمعنى الصحيح للكلمة، لا جثة ولا وجه، وفي النتيجة لم يعد من مسوّغ لفتح النعش. بدا كلّ هذا عملاً لا مثيل لوحشيته. مع ذلك، وفي لحظة توجّهي صوب النعش أوقفتني يد أحدهم. لبثت واقفاً هناك هنيهة، حائراً، عاجزاً وقد أُسقط في يدي. ثمّ عدت لألقي كلمة، بل لأطلق الكلام إذ لم أكن أعرف بعدُ بِما سأتفوّه، وقلت بصوت منخفض جدّاً، وبعكس كلّ التوقّعات، إنّني لا أدعو إلى الثأر، وهو ثأر لا قدرة لي عليه أساساً، كما أنني لا أؤمن به. وبطبيعة الحال طالبت بالعدالة كما أوصيت بالصفح: "فلندفن الحقد والثار". وأضفت أنني آمل أن تكون عملية الاغتيال هذه هي خاتمة سلسلة الاغتيالات وأن يجد لبنان سبيله إلى السلام. وددْت أن أصرخ: "كفانا دماً!"، لكن لا أظنّ أنني قلتها، أما الجمهور في الخارج فإنه، من جهته، تبلّغها بشكلٍ جليّ.
في تلك اللحظة سادت في الكاتدرائية حركة ذهول وعدم تفهّم ربما لما حصل. فلا أحد، أو تقريباً لا أحد، كان يتوقّع، في ظلّ هذه الظروف الفظيعة، أن أمنح عفوي، ومني أنا ربما أقل من أيّ شخصٍ آخر. فجوّ العنف الطاغي في البلاد كان يبرّر على الأرجح ردّاً بحجم ما أصابنا مؤخّراً، وربما ما كنت لأرفض ذلك قبل دقائق من دخولنا الكاتدرائيّة. فما من شيءٍ في الجرائم التي ارتكبت في الأشهر الأخيرة ضدّ العديد من شخصيات الصفّ الأوّل يمكن أن يبرّر أيّ حِلْم. لكن أنا نفسي فوجئت بهذا الكلام يصدر عنّي، وللتخفيف من وقعه رأيت من المناسب أن أضيف أنني آمل من كلّ قلبي أن تتحقّق العدالة. أحسست هنيهة بالحقد، وكانت تلك مناسبة لكي ألقي كلمة تأبينيّة في ذكرى ولدي القتيل، لكن شيئاً من هذا لم يحدث. فكيف دهمتني فكرة الصفح الطارئة هذه في لحظة أتأمل فيها، وأنا مديرٌ ظهري للجمهور، النعش الذي ترقد فيه جثّة ولدي الشهيد؟ ربما لأنني أمسكت لبرهة بيد المطران الذي تكلّم بالنفحة نفسها، إنما بمزيد من الغضب. فهو كصديق للعائلة رافق جبران في نشأته ويعرف تماماً ما كان يمثّله لي وللوطن. وفي الوقت نفسه أحسست أنّ هذه الجريمة التي طالت ابني، ومزّقت كامل جسده، هي تحديداً جريمة تطال صورة الله. الله الذي خلق الانسان على صورته تمّ الاعتداء عليه مباشرة. ووجدتني بذلك أفكر في أمورٍ متناقضة لا حصر لها. والرغبة في الغفران لم تحجب في أعماقي حالة من الغضب الشديد على أولئك الذين حرمونا حتّى من إتمام وداعنا، ومنعونا من طبع القبلة الأخيرة على جبين غابي. بطرقٍ متعدّدة قتلوه!
ما قلته قبل لحظات هزّ كياني هزّاً، وهو ما جعلني آخذ كامل وقتي، أثناء تقبّلي التعازي من المقرّبين الذين انضمّوا إليّ في قاعة استقبال خاصّة، لكي أصوّب معنى خطابي وأشدّد مرّة أخرى على ضرورة تحقيق العدالة. إلا أنّ هذه التصويبات لم تكفِ وظلّ هناك من يعاتبني لائماً إيّاي على تراخِيَّ. وقد أخذ عليّ بعض السياسيّين أنّني ألمحت إلى تبرئة سوريا المتّهمة مباشرة بمحاولات وعمليّات الاغتيال الأخيرة التي استَهدفتْ، ليس جبران وحسب، بل الصحافيّ سمير قصير، أحد أقرب معاونيَّ في الجريدة، وجورج حاوي، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني، والياس المرّ، وزير الدفاع، وأخيراً الصحافيّة في تلفزيون الـ"إل.بي.سي." ميّ شدياق. وفي السنة السابقة كانت محاولة اغتيال بسيارة مفخّخة قد استهدفت ابن حمِيَّ، مروان حمادة، وهو صحافي ووزير وأحد مساعدي رفيق الحريريّ المقرّبين، ما اعتبر نذيراً بالقضاء على هذا الأخير بعد أشهر قليلة. وقد تبيّن أنّ هؤلاء الأشخاص الذين ساءهم بشكلٍ ما صفحي كانوا على حقّ، إذ إنّ سوريا أذاعت، غداة هذه الأحداث، بياناً قالت فيه إنّه كان من المتوقّع لأناس مثل جبران تويني أن يتعرّضوا للاغتيال كونهم كانوا يدعمون العدو، أي إسرائيل. لكنّني أجبت بأنّني لا أبرّئ أحداً، وبأنّ كلّ ما في الأمر أنني كنت في صدد دفن ابني المغدور. ولا أظنّ أنّ هذا كان تعبيراً عن ضعف من جانبي. وأضيف أنّ أناساً، أعرفهم ولا أعرفهم، قد حضروا مأخوذين بسورة حماس تركت أثرها فيّ، لكي يشكروني على ما قلته في ظرف على هذا المستوى من الشناعة. وأشكال التأييد هذه هي التي التقطتها الصحافتان اللبنانية والدوليّة ونقلَتَاها.
وليست هذه المرّة الأولى التي يتهدّدني فيها هذا الموت الفظيع، الذي لا يمكن وصفه، ليضيّق عليّ دائرته حتى أصابني في لحمي ودمي. فقد سبق أن فقدت في العام 1966 أحد أعزّ أصدقائي، كامل مروّه، وهو الأوّل في سلسلة طويلة من المعاونين والأصدقاء والشركاء، وحتّى المعارضين لي، الذين شهدتُ سقوطهم في ظروف مماثلة، حتى جاء حاليّاً دور ابني.
لاحَتْ بوادر هذه الفاجعة في باريس، مساء يوم سبت قبل يومين من هذا الموت المأساويّ. كان جبران ينزل مع زوجته في شقّة صغيرة ملاصقة لشقّة العائلة. عادا من السينما وقرعا بابنا. وكان جبران قد اشترى في طريقه ألواحاً من الشوكولا المرّ الذي أُحبّه كثيراً متذرّعاً بذلك لكي يزورنا. وقد استغربتُ منه هذه الهديّة التي تأتي في هذه الساعة المتأخّرة من الليل، وارتبت في أنّها تخبّئ وراءها طلباً ما. وأفهمتني زوجته أنه قرّر العودة إلى لبنان يوم الأحد، أي في اليوم التالي، وأنّ كلّ محاولاتها لثنيه عن ذلك قد ذهبت سدًى، وأنها هي التي بادرت إلى هذه الزيارة متخيّلة أنني ربما تمكّنت من حمله على تغيير رأيه. كان جبران يدرك تماماً أنّه مهدّد، فقد سبق للعديد من أجهزة الاستخبارات أن سرّبت أسماء أولئك الذين تنوي سوريا تصفيتهم، واسم جبران على رأس اللائحة. ويبدو أنّه لم يعبأ بذلك، فقد كان عليه أن يتكلّم في مجلس النواب صباح الثلاثاء، وتحديداً عن اللبنانيين المفقودين في سوريا، وهي قضيّة مرّة ولا يرقى اليها الشك، إلا أنّ قلّة من الناس تجرّأت على تناولها.وهذا الإيضاح هو الذي عزّز رأيي القائل بأنه يجب ألا يعود بأي شكل من الأشكال إلى لبنان في ظلّ هذه الظروف ولكي يلقي كلاماً من هذا النوع في مجلس النواب. إلا أنّه حاول طمأنتي قائلاً: "لن يحدث شيء". وتركتهما يغادران. وفي صبيحة يوم الاثنين كنت أتابع الأخبار على شاشة التلفزيون عندما علمت فجأة أنّ سيّارة مفخّخة قد انفجرت على الطريق من بيت مري إلى بيروت، في حوالى الساعة التاسعة والنصف، وأنّه لم يُعرف حتى الآن من هم الضحايا. سارعت إلى الاتّصال بلبنان لأعرف إن كان جبران قد غادر المنزل. وجاءني الردّ بأنّه غادر قبل دقائق. بدا كما ولو أنني أحضر عملية الاغتيال مباشرة.
وبات الأمر الآن على عاتق القضاة الذين عيّنتهم لجنة التحقيق الدوليّة لكي يجلوا الحقيقة في ظروف اغتيال ولدي.
من كتاب غسان تويني
"فلندفن الحقد والثأر" – دار النهار
تستشهدُنا من بعدك كلّ نهار
يا ابني، يا حبيبي!
أمضي، في الفراغ الذي تركتَ من بعدك في دنيا الحياة، أسألك: لماذا، لماذا؟
أسأل طيفك الذي يحوم حولي ويُثقل الفراغ بصوتك الذي لا يهدأ، مروراً بقَسَمك حاملاً صداه هدير جماهير "ساحة الشهداء" إياها، وكأنها امتدّت وتمتدّ بنا وبالسابقين واللاحقين من قرن إلى قرن: لماذا لم تخف من الموت؟ لماذا كسرت التنبيه وهرولت الى الشهادة وكأنك على موعد مع القتلة الذين كنا وكنتَ تعرف أنهم ينتظرونك؟ لماذا ذلك الزهد بالذات وبالحياة؟…
أحمل على شفتيّ وهج القبلة التي لم أجد جبينك لأطبعها عليه قبل أن يلفّك التراب، ولا تركوني ألمس وجهك الضاحك لأغسل عنه بدموعي آثار البارود الذي أحرقَك وأحرقَ قلبي وقلوب محبيك والمتعبّدين للوطن والحرية كلهم…
***
التراب الذي لم يبرد ولم يتحجّر من ثلاث سنوات ليس حاجزاً بيننا وبين الموت الذي تسكن! الموت صار هو حياتنا، فأعرف أنك تسمعني وأنك استمررت تنظر إلى كل ما صرنا إليه من بعدك…
لا عزاء لنا بعد… لكن العزاء آتٍ، لأن ليس في التاريخ – ولا القدر – منطق أو ناموس يسمح بأن تذهب الشهادة سدى… فاصبر وانتظر في كنف الحب المؤمن الذي يُدفئ غربتك، أعرف…
لن تنتظر إلى الأبد، لأن الأبدية صارت خلفنا ووراءك.
***
إفتح عينيك يا ابني، يا حبيبي.
ساعة اليقظة لا بدّ آتية، ويأتي لقاؤك مع المؤمنين بقَسَمك، فتراهم كيف يتجاوبون.
***
الشهداء لا يشعرون بيأس لأنهم يدركون بحماسة الشهادة أنهم يستمرون يستشهدوننا معهم بفرحٍ إلى ساعة القيامة الآتية في تاريخٍ، إذا أردناه، هكذا ما كان منظوراً، فهو هو، لا سواه، المنتصر على الموت. ليس القتلة الذين ينتصرون ولو اغتالوا الشهداء ببربرية تحرق الأجساد…
ولو غرّروا بعقول الذين يصدقونهم.
فالروح الباقية أبداً أقوى من البارود ومن نار الجحيم الذي فتحوا أبوابه ليُطلقوا ناره… ستحرقهم هذه النار إياها لأنها سترتد عليهم… فلنؤمن معاً!
عهد علينا يا ابني كل نهار: لن نستسلم للنار مهما اشتعلت! ولن نخاف الموت الزائل أمام دفع الحياة.
الشهادة الدائمة الحياة تشترينا وتقيمنا حتى من الموت وتُحيينا.
فلنؤمن ولا نتردد!
غسان تويني
12/12/2008
حين تُطيل التأمُّلَ في وردةٍ
جَرَحَت حائطاً, وتقول لنفسك :
لي أملٌ في الشفاء من الرمل /
يخضرُّ قلبُكَ .
حين تُرافقُ أُنثى إلى السيرك
ذات نهارٍ جميلٍ كأيقونةٍ .
وتحلُّ كضيفٍ على رقصة الخيل /
يحمرُّ قلبكَ .
حين تعُدُّ النجوم وتُخطئُ بعد
الثلاثة عشر, كالطفلِ
في زُرقة الليلِ /
يبيضُّ قلبُكَ .
حين تَسيرُ ولا تجد الحُلمَ
يمشي أمامك كالظلّ /
يصفرُّ قلبك .
م.د